فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والوعد: هو إخبارٌ بشي سيحدث من الذي يملك أن يُحْدِث الشيء.
وإنفاذ الوعد له عناصر: أولها الفاعل، وثانيها المفعول، وثالثها الزمان، ورابعها المكان، ثم السبب.
والحدث يحتاج إلى قدرة، فإن قلت: آتيك غدًا في المكان الفلاني لأكلمك في موضوع كذا فماذا تملك أنت من عناصر هذا الحدث؛ إنك لا تضمن حياتك إلى الغد، ولا يملك سامعك حياته، وكذلك المكان الذي تحدد فيه اللقاء قد يصيبه ما يدمِّره، والموضوع الذي تريد أن تتحدث فيه، قد يأتي لك خاطر ألا تتحدث فيه من قبل أن يتم اللقاء.
وهَبْ أن كل العناصر اجتمعت، فماذا تملك أنت أو غيرك من عناصر الوعد؟ لا شيء أبدًا.
ولذلك يعلِّم الله سبحانه خَلْقه الأدب في إعطاء الوعود، التي لا يملكونها، فيقول سبحانه: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْئ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 2324].
وحين تقدِّم المشيئة فإن حدث لك ما يمنع إنفاذ الوعد فلن تكون كذابًا.
وهكذا يعلّمنا ربنا صيانة أخبارنا عن الكذب، وجعلنا نتكلم في نطاق قُدراتنا، وقُدراتنا لا يوجد فيها عنصر من عناصر الحدث، لكن إذا قال الله سبحانه، ووعد، فلا رادّ لما وعد به سبحانه؛ لأنه منزَّه عن أن يُخْلف الميعاد؛ لأن عناصر كل الأحداث تخضع لمشيئته سبحانه، ولاَ تتأبَّى عليه، ووعده حق وثابت.
أما أنت فتتحكم فيك الأغيار التي يُجريها الحق سبحانه عليك.
وهَبْ أنك أردت أن تبني بيتًا، وقلت للمهندس المواصفات الخاصة التي تريدها في هذا البيت، لكن المهندس لمي يستطع أن يشتري من الأسواق بعضًا من المواد التي حددتها أنت، فأنت إذن قد أردت ما لا يملك المهندس تصرُّفًا فيه.
لكن الأمر يختلف بالنسبة للخالق الأعلى سبحانه؛ فهو الذي يملك كل شيء، وهو حين يَعد يصير وَعْدُه محتَّم النفاذ، ولكن الكافرين ينكرون ذلك؛ ولذلك قال الله سبحانه: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس: 55].
أي: أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة، فقد سبق أن قالوا: {متى هذا الوعد} [يونس: 48].
أو أن: {أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} تعني: أن الإنسان يجب ألاَّ يضع نفسه في موعد دون أن يقدِّم المشيئة؛ لأنه لا يملك من عناصر أي وعد إلا ما يشاؤه الله تعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ}
ونحن نعلم أن حركة الحياة، والمِلْك والمُلْك، هي فروع من الأحياء، وهو سبحانه حَيٌّ؛ لأنه مالك الأصل، وهو القادر على أن يميت، وكل ما يصدر عن الحياة يسلبه الله سبحانه بالموت فهو مالك الأشياء، والأسباب التي تُنتج الأشياء، ولا يفوته شيء من وعد ولا وعيد، ونحن نحيا بمشيئته سبحانه، ونموت بمشيئته سبحانه، فلن نفلت منه.
لذلك قال سبحانه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فمن لا يعتبر بأمر الأحياء؛ عليه أن يرتدع بخوف الرجعة. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ}
هذا إخبار للكفار في سياق إخبارهم بأن ذلك الوعد حق،: {وأسروا} لفظة تجيء بمعى أخفوا، وهي حينئذ من السر، وتجيء بمعنى أظهروا، وهي حينئذ من أسارير الوجه، قال الطبري: المعنى وأخفى رؤساء هؤلاء الكفار الندامة عن سفلتهم ووضعائهم.
قال القاضي أبو محمد: بل هو عام في جميعهم و: {ألا} استفتاح وتنبيه، ثم أوجب أن جميع: {ما في السماوات والأرض} ملك لله تعالى، قال الطبري: يقول فليس لهذا الكافر يومئذ شيء يقتدي به.
قال القاضي أبو محمد: وربط الآيتين هكذا يتجه على بعد، وليس هذا من فصيح المقاصد، وقوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} قيد بالأكثر لأن بعض الناس يؤمن فهم يعلمون حقيقة وعد الله تعالى وأكثرهم لا يعلمون فهم لأجل ذلك يكذبون، وقوله و: {هو يحيي} يريد يحيي من النطفة: {ويميت} بالأجل ثم يجعل المرجع إليه بالحشر يوم القيامة وفي قوة هذه الآيات ما يستدعي الإيمان وإجابة دعوة الله، وقرأ: {ترجعون} بالتاء من فوق الأعرج وأبو عمرو وعاصم ونافع والناس، وقرأ عيسى بن عمر {يرجعون} بالياء من تحت، واختلف عن الحسن. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} النَّبَأُ الْخَبَرُ الْمُهِمُّ ذُو الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ طَلَبُهُ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَالْمُكَذِّبِينَ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ وَإِنَّمَا كَانُوا ظَانِّينَ مُسْتَبْعِدِينَ، بَيْنَ مُعَانِدِينَ وَمُقَلِّدِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا} (36) وَالْمَعْنَى: وَيَسْأَلُونَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَنْ تُنَبِّئَهُمْ عَنْ هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي تَعِدُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَحَقٌّ هُوَ سَيَقَعُ بِالْفِعْلِ؟ أَمْ هُوَ إِرْهَابٌ وَتَخْوِيفٌ؟ {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} إِيْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ الْخَفِيفَةِ حَرْفُ جَوَابٍ وَتَصْدِيقٍ بِمَعْنَى نَعَمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ الْقَسَمِ؛ أَيْ نَعَمْ أُقْسِمُ لَكُمْ بِرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَاقِعٌ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الطُّورِ بَعْدَ الْقِسْمِ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} (52: 7 و8) وَقَدْ أَكَّدَهُ هُنَا بِالْقَسَمِ وَبِإِنَّ مَعَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ إِنْزَالِهِ بِكُمْ، وَلَا بِفَائِتِيهِ هَرَبًا مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ مُؤْمِنُو الْجِنِّ مَا جَهِلْتُمْ إِذْ قَالُوا كَمَا حَكَى الله عَنْهُمْ: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} (72: 12).
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ السُّؤَالَ بِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِّيًا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَالْجَوَابُ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ تَأْكِيدَهُ بِالْقَسَمْ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ اللَّفْظِيَّةِ لَا يُقْنِعُ السَّائِلِينَ، وَمَنْ عَرَفَ أَخْلَاقَ الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ لَمْ يَسْتَشْكِلِ السُّؤَالَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُونَ مِنَ الْمُعَانِدِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، أَوْ كَمَا قِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا أَهْوَ جِدٌّ أَمْ هَزْلٌ، فَأَرَادُوا مِنَ الْحَقِّ لَازِمَهُ وَهُوَ الْجِدُّ لَا مُقَابِلَ الْبَاطِلِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ أَنَّهُ كَانَ يَقِلُّ فِيهِمُ الْكَذِبُ لِعَزَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَدَمِ خُضُوعِهِمْ لِرِيَاسَةٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ تَضْطَرُّهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانُوا يَهَابُونَ الْأَيْمَانَ الْبَاطِلَةَ وَيَخَافُونَهَا، وَمِنَ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ تَدَعُ الدِّيَارَ بِلَاقِعَ، وَنَاهِيكَ بِمَا اشْتُهِرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ صِغَرِهِ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ حَتَّى لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ نُبُوَّتِهِ وَعَنِ الشَّرَائِعِ وَيَسْتَحْلِفُهُ فَإِذَا حَلَفَ اطْمَأَنَّ لِصِدْقِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَإِنَّ صِدْقَ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ لِيَقِلُّ مِثْلُهُ فِي رِجَالِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ حَتَّى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّجْدَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ قُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «قَدْ أَجَبْتُكَ». فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَالَكَ». فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: «اللهُمَّ نَعَمْ». قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: «اللهُمَّ نَعَمْ» قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: (اللهُمَّ نَعَمْ) قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتُقَسِّمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ قَالَ: (اللهُمَّ نَعَمْ) قَالَ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْهُ: قَالَ أَنَسٌ نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: (صَدَقَ) قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: (اللهُ) قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ (اللهُ) قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ فَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: (اللهُ) قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ (نَعَمْ) (ثُمَّ سَأَلَهُ بِالَّذِي أَرْسَلَهُ عَنْ كُلٍّ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ. فَأَجَابَ نَعَمْ) ثُمَّ وَلَّى وَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ».
وَزَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَيْضًا: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الْأَنْدَادَ الَّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ؟ قَالَ: (اللهُمَّ نَعَمْ) وَأَنَّهُ كَانَ أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» وَذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِئْسَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ وَالْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ. قَالَ: وَيْلَكْمُ إِنَّهُمَا وَاللهِ مَا يَضُرَّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَعَثَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا وَأَنْزَلَ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فَوَاللهِ مَا أَمْسَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا.
وَأَقُولُ: إِنَّ فَائِدَةَ السُّؤَالِ عَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَمَا فِيهَا ثُمَّ ذِكْرَهُ فِي الْقَسَمِ، أَنَّ اسْتِحْضَارَ ذَلِكَ فِيهِ يَكُونُ أَحْرَى أَنْ يُلْتَزَمَ فِي الْجَوَابِ الصِّدْقُ وَتَعْظِيمُ الْقَسَمِ وَالْخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ الْحِنْثِ، وَقَدْ خَفِيَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا إِثْبَاتَ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ بِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْجَدَلِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لِلْجَاحِدِينَ الْمُجَادِلِينَ بِالْبَاطِلِ، وَجَهِلَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ، وَلاسيما السِّيَاسِيِّينَ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ وَدُعَاةِ التَّنْصِيرِ الْبُرُوتِسْتَنْتِيُّ الْمَطْبُوعِينَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْكَسْبِ بِهِ وَالْأَخْذِ بِقَوْلِ رُؤَسَائِهِمْ: (إِنَّ الْغَايَةَ تُبَرِّرُ الْوَاسِطَةَ) يَعْنُونَ أَنَّ اقْتِرَافَ الْكَذِبِ وَسَائِرِ الرَّذَائِلِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْكَنِيسَةِ فَضِيلَةٌ- جَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمُ احْتِرَامًا لِلصِّدْقِ، فَضْلًا عَنِ الْإِسْلَامِ وَكِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ فَأَبَاحُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَكِتَابِهِ وَخَاتَمِ رُسُلِهِ، مَا لَمْ يَخْطُرْ مِثْلُهُ فِي بَالِ الشَّيْطَانِ قَبْلَهُمْ فَيُوَسْوِسَ بِهِ لِغَيْرِهِمْ:
لَقَدْ كَذَبُوا عَلَى الْإِسْلَامِ كِذْبًا ** تَزُولُ الشُّمُّ مِنْهُ مُزَلْزَلَاتِ

أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (16: 105) وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي هَدْيِهِ: «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ} أَيْ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ تَلَبَّسَتْ بِهَذَا الظُّلْمِ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ وَالزِّينَةِ وَصُنُوفِ النَّعِيمِ وَأَمْكَنَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ بِهِ، أَيْ تَجْعَلُهُ فِدَاءً لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ذُو قُوَّةٍ يُنْقِذُهَا مِنْهُ بِذُلِّهَا لَهُ، لَافْتَدَتْ بِهِ كُلِّهِ لَا تَدَّخِرُ مِنْهُ شَيْئًا {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} إِسْرَارُ الشَّيْءِ إِخْفَاؤُهُ وَكِتْمَانُهُ، وَإِسْرَارُ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ خَفْضُ الصَّوْتِ بِهِ، فَهُوَ ضِدُّ إِعْلَانِهِ وَالْجَهْرِ بِهِ، وَمِنْهُ: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} (67: 13): {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} (21: 110) وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْجَهْرِ مُطْلَقًا فَهُوَ ضِدٌّ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَالنَّدَمُ وَالنَّدَامَةُ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ عَقِبَ كُلِّ فِعْلٍ يَظْهَرُ لَهُ ضَرَرُهُ، وَقَدْ يَجْهَرُ بِهِ بِالْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ} (39: 56) أَوْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَقَدْ يُخْفِيهِ وَيَكْتُمُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْ إِعْلَانِهِ أَوِ اتِّقَاءً لِلشَّمَاتَةِ أَوِ الْإِهَانَةِ بِهِ، أَيْ وَأَسَرَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ ظَلَمُوا نَدَامَتَهُمْ وَحَسْرَتَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ أَوْ كَتَمُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} أَيْ رَأَوْا مَبَادِيَهُ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا لَا مَصْرِفَ لَهُمْ عَنْهَا، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِرُؤْيَتِهِ عَنْ وُقُوعِهِ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أَيْ وَقَضَى اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالظُّلْمِ الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِيذَاءِ فَخُصُومُهُمُ الرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ، وَكَذَا مَنْ أَضَلُّوهُمْ وَظَلَمُوهُمْ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ بِالْكُفْرِ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ هُنَا وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ بَعْدَ حِكَايَةِ مُجَادَلَةِ الظَّالِمِينَ وَالْمَظْلُومِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (34: 33) وَإِنْ أُرِيدَ بِالظُّلْمِ مَا يَعُمُّ ظُلْمَهُمْ لِلنَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ وَهَضْمَ الْحُقُوقِ كَانَ كُلُّ مَظْلُومٍ خَصْمًا لِظَالِمِهِ {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أَيْ لَا يَظْلِمُهُمُ اللهُ كَمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا أَتْبَاعَهُمْ وَمُقَلِّدِيهِمْ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ. وَالْآيَاتُ فِي نَدَمِ الظَّالِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعْرُوفَةٌ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّبَأِ: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} (78: 40) وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} (25: 27 و28)
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِنْفَاذِ حُكْمِهِ وَإِنْجَازِ وَعْدِهِ وَكَوْنِ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لَا يُعْجِزُونَهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الِافْتِدَاءَ مِنْ عَذَابِهِ، فَقَالَ: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قُلْنَا مِرَارًا: إِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ الْعَالَمِ، وَهُوَ تَعَالَى مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَلِكُهُمَا، وَلَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِمَا مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَاتُ بِهَذَا كُلِّهِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، فَهَاهُنَا غَلَّبَ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى غُرُورِ الْكَافِرِينَ وَالظَّالِمِينَ بِمَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ بِهِ، وَتَعَذُّرِ الِافْتِدَاءِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ فِي الْآيَةِ 66 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِاقْتِضَاءِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ، وَصَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ {أَلَا} الَّذِي يُفْتَتَحُ بِهِ الْكَلَامُ لِتَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَهَا لِكَثْرَةِ ذُهُولِ النَّاسِ عَنْ تَذَكُّرِ أَمْثَالِهَا، وَالْمَعْنَى: لِيَتَذَكَّرِ النَّاسِي وَلْيَتَنَبَّهِ الْغَافِلُ وَلْيَعْلَمِ الْجَاهِلُ أَنَّ لِلَّهِ وَحْدَهُ مَا فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَعَالَمِ الْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا حَيْثُ يَشَاءُ، فَيُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ وَالْفِدَاءِ، فِي يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ {أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} أَعَادَ فِيهِ حَرْفَ التَّنْبِيهِ تَأْكِيدًا لِتَمْيِيزِهِ بِهَذَا التَّنْبِيهِ عَمَّا سَبَقَهُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ هُنَا بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، أَيْ كُلُّ مَا وَعَدَ بِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ حَقٌّ وَاقِعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَعْدُ الْمَالِكِ الْقَادِرِ عَلَى إِنْجَازِ مَا وَعَدَ لَا يُعْجِزُهُ مِنْهُ شَيْءٌ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} يَعْنِي بِأَكْثَرِهِمُ الْكُفَّارَ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَمْرَ الْآخِرَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا مِنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
{هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} بِقُدْرَتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ 31 و34 {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عِنْدَمَا يُحْيِيكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَيَحْشُرُكُمْ لِيُحَاسِبَكُمْ وَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا قَبْلَهُ بِالْإِيجَازِ، وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ خَاتِمَةُ هَذَا السِّيَاقِ. اهـ.